فصل: الأشرفية خجداشيته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


وفي هذه الأيام أشيع بين الناس بركوب المماليك السلطانية على السلطان بعد النفقة ولم يعلم أحد من هو القائم بالفتنة فلم يلتفت السلطان لهذا الكلام‏.‏

ثم في يوم الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة قرىء تقليد السلطان الملك المؤيد بين يديه بالقصر الأبلق تولى قراءته القاضي محب الدين ابن الشحنة كاتب السر وهو من إنشائه وحضر الخليفة المستنجد القراءة والقضاة الأربعة وغالب أركان الدولة وأمرائها فلما تمت القراءة خلع السلطان على الخليفة فوقاني حرير بوجهين أخضر وأبيض بطرز زركش وقيد له فرسًا بسرج ذهب وكنبوش زركش ثم خلع على القضاة كوامل بمقالب سمور وانفض الموكب‏.‏

وفي يوم السبت خامس عشر وصل إلى القاهرة قاصد الأمير جانم الأشرفي نائب الشام وعلى يده كتاب مرسله يتضمن أنه حصل له سرور زائد بسلطنة الملك المؤيد وأنه مستمر على طاعته ممتثل أوامره‏.‏

وفيه أيضًا ورد الخبز بأن عرب لبيد العصاة نزلوا البحيرة ونهبوا إلاموال وشنوا الغارات فعين السلطان تجريدة من الأمراء وأمرهم بالتجهيز والسفر إلى البحيرة‏.‏

ثم في يوم الأربعاء رابع شهر رجب وصل الأمير تمراز الإينالي الأشرفي الدوادار كان من طرابلس إلى الديار المصرية بغير إذن السلطان ولم يجتز بمدينة قطيا ونزل عند الأتابك خشقدم وأرسل دواداره إلى الملك المؤيد أعلمه بمجيء تمراز المذكور فقامت قيامة السلطان لمجيئه على هذه الصورة وغضب غضبًا شديدًا ورسم بإخراجه من القاهرة لوقته فأخذ تمراز في أسباب الردود والخروج إلي خانقاه سرياقوس فشفعت الأمراء فيه في عصر يومه بالقصر فقبل السلطان شفاعتهم على أنه يقيم بالقاهرة ثلاثة أيام لعمل مصالحه ثم يسافر إلى حيث جاء منه فعاد تمراز من جهة الخانقاه إلى القاهرة‏.‏

فترقب كل أحد وقوع فتنة لأن تمراز هذا شر مكانًا ودأبه الفتنة وإثارة الفتن وهو من أوخاش بني آدم‏.‏

فأقام تمراز إلى يوم الجمعة سادسه فطلع إلى القلعة وقبل الأرض بين يدي السلطان وأخذ في إلاعتذار الزائد لمجيئه بغير إذن فقبل السلطان عذره وخلع عليه كاملية بمقلب سمور وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق ورسم له أن يقيم بالقاهرة ثلاثة أيام من يومه هذا ويسافر فنزل إلى داره والناس على ما هم عليه من أن تمراز هذا لا بد له من إثارة فتنة وتحريك ساكن‏.‏

هذا والأمراء تكرر الشفاعة فيه ليقيم بالديار المصرية وخجداشيته الأشرفية في غاية ما يكون من إلاجتهاد في ذلك والسلطان مصمم على سفره إلى أن سافر حسبما يأتي ذكره‏.‏

وفي يوم الجمعة هذا الموافق لثاني عشرين برمودة لبس السلطان القماش الأبيض البعلبكي المعد للبس الصيف كما هي العادة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشر شهر رجب المذكور خلع السلطان الملك المؤيد على تمراز المذكور خلعة السفر وسافر من يومه إلى دمشق بعد أن أنعم السلطان عليه بخمسمائة دينار وعدة خيول وبغال وتوجه تمراز ولم يتحرك ساكن‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني عشره استقر القاضي شرف الدين الآنصاري ناظر الجوالي بعد عزل ناصر الدين محمد بن أحمد بن أصيل‏.‏

وفيه وصل الأمير مغلباي طاز الأبوبكري المؤيدي بعد أن بشر الأمير جانم نائب الشام بسلطنة المؤيد وعاد‏.‏

وفيه وصل السيفي شاهين الطواشي الساقي الظاهري المتوجه قبل تاريخه لإحضار تركة زوجة الأمير قاني باي الحمزاوي من دمشق وأحضر شيئًا كثيرًا جدًا من الجواهر واللآلىء وإلاقمشة وغير ذلك حتى إنه أبيع في أيام كثيرة‏.‏

ثم في يوم الجمعة العشرين من شهر رجب المذكور نزل السلطان الملك المؤيد أحمد من قلعة الجبل إلى جهة العارض بالقرافة الصغرى خلف القلعة وعاد بسرعة إلى القلعة وهذا أول نزوله من يوم تسلطن‏.‏

قلت‏:‏ وآخر نزوله فإنه لم ينزل بعدها إلا بعد خلعه إلى الإسكندرية‏.‏

وفيه أمطرت السماء بردًا كل واحد مقدار بيضة الحمام فأتلفت غالب الزرع وأهلكت كثيرًا من ذوات الجناح وكان معظم هذا المطر بقرى الشرقية من أعمال القاهرة وببعض بلاد من المنوفية والغربية وقليلًا بإقليم البحيرة‏.‏

وفي يوم الخميس سادس عشرينه رسم السلطان بنفي سنطباي قرا الظاهري إلى البلاد الشامية وسببه أن سنطباي هذا كان من المنفيين إلى طرابلس في دولة الملك الأشرف إينال فلما سمع بموت الأشرف قدم القاهرة بغير إذن واختفى بها نحو الشهر عند بعض خجداشيته ففطن السلطان به فرسم بنفيه فاجتهدت خجداشيته الظاهرية في إقامته فلم تقبل فيه شفاعة فخرج من يومه وعظم ذلك على خجداشيته الظاهرية في الباطن‏.‏

قلت‏:‏ ولا بأس بما فعله السلطان في إخراج سنطباي المذكور على هذه الهيئة فإنه أخرج قبله تمراز من الأشرفية ثم أخرج هذا من الظاهرية فكأنه ساوى بين الطائفتين‏.‏

هذا والناس في رجيف من كثرة الإشاعة بوقوع فتنة‏.‏

ثم فى يوم الاثنين سابع شعبان استقر شاد بك الصارمي أحد أمراء الألوف بدمشق أتابكًا بحلب على مال بذله في ذلك نحو العشرة إلاف دينار‏.‏

وفيه وصلت رسل السلطان إبراهيم بن قرمان إلى القاهرة بهدية إلى السلطان وقبل هدية مرسلهم ورحب بهم‏.‏

ثم في يوم الخميس سابع عشر شعبان وصل إلى القاهرة الشرفي يحيى ابن الأمير جانم نائب الشام وطلع إلى السلطان من الغد وقبل الأرض نيابة عن أبيه وسأل سلطان في إطلاق الأمير تنم من عبد الرزاق المؤيدي أمير سلاح كان والأمير قاني باي الجاركسي الأمير آخور كان من سجن الإسكندرية فلم يقبل السلطان شفاعته وسوف به إلى وقت غير معلوم‏.‏

وعلم السلطان أن مجىء ابن جانم هذا ليس هو بصدد الشفاعة فقط وإنما هو لتجسس الأخبار وعمل مصلحة والده مع خجداشيته الأشرفية وغيرهم من الظاهرية والمؤيدية‏.‏

وكذا كان ولم يظهر الملك المؤيد لأحد وإنما أخذ في حساب جانم نائب الشام في الباطن والتدبير عليه بكل ما تصل القدرة إليه ولم يسعه يوم ذلك إلا أن تجاهل عليهم‏.‏

هذا الأمر أحد أسباب حضور جانم إلى الديار المصرية حسبما يأتي ذكره مفصلًا إن شاء الله تعالى في ترجدة الملك الظاهر خشقدم لأن يحيى ولد جانم لما حضر هذه الأيام إلى الديار المصرية اتفق مع أعيان المماليك الظاهرية بعد أن اصطلحوا مع المماليك الأشرفية على عداوة كانت بينهم قديمًا وحديثًا ورضوا الظاهرية بسلطنة جانم عليهم وهم أكره البرية فيه حيث لم يجدوا بدًا من ذلك وما ذاك إلا خوفًا من الملك المؤيد هذا فكان أمرهم في هذا كقول القائل‏:‏ الوافر وما من حبه أحنو عليه ولكن بغض قوم آخرين وسافر الشرفي يحيى من مصر إلى جهة أبيه في يوم الجمعة خامس عشرين شعبان بعد أن خلع عليه السلطان وأنعم عليه بخمسمائة دينار وقد مهد لأبيه الأمور بالديار المصرية مع الظاهرية‏.‏

وأما

 الأشرفية خجداشيته

فهم من باب أولى لا يختلف على جانم منهم اثنان وما كان قصد جانم إلا رضاء الظاهرية وقد رضوا‏.‏

وسار يحيى وهو يظن أن أمر أبيه قد تم في سلطنة مصر ولم يفطن إلى تقلبات الدهر‏.‏

فلما أن وصل يحيى إلى والده حدثه بما وقع له بمصر مع زيد و عمرو وكان عند جانم رحمه الله تعالى خفة لما كان أوحى إليه الكذابون من أقوال الفقراء ورؤية المنامات وعبارات المنجمين فتحقق المسكين أنه لا بد له من السلطنة ووافق ذلك صغر ويا دارها بالخيف إن مزارها قريب دون دون ذلك أهوال وقوى أمر جيى وخفة جانم اجتماع تمراز الأشرفي الدوادار المقدم ذكره بجانم في دمشق وقد صدق هذا الخبر لما في نفسه من الملك المؤيد هذا ومن أبيه الأشرف إينال لما عزله من الدوادارية الثانية وأخرجه من مصر بطالًا إلى القدس ثم وقع له معه ما حكيناه هذا مع كثرة فتن تمراز وقلة عقله وسوء خلقه وشؤم طلعته فوافق تمراز يحيى وتسلطا معًا على جانم ولا زإلا به حتى وافقهما فى الباطن وأخذ في أسباب ذلك فلم يمض إلا القليل ووقع لجانم ما سنذكره مع عوام دمشق من النهب والفتك به وإخراجه من دمشق على أقبح وجه حسبما هو مقول في ترجدة الملك الظاهر خشقدم بعد خلع المؤيد‏.‏

وأما أمر الملك المؤبد هذا فإنه بعد خروج يحيى بن جانم أخذ يوسع الحيلة والتدبير في أخذ جانم بكل طريق فلم ير أحسن من أن يرسل يكاتب أعيان دمشق بالقبض على جانم المذكور إن أمكن وهذا القول لم أذكره يقينًا ولكن على قول من قال عنه ذلك وليس هو ببعيد لأن أهل دمشق وحكامها ما في قدرتهم القيام على نائب الشام إلا بدسيسة من السلطان والله أعلم بحقيقة الأمر‏.‏

واستمر الملك المؤيد على ما هو عليه بالديار المصرية وأمره في انحطاط من عدم تدبيره في أواخر أمره وأيضًا من قلة المساعدة بالقول والفعل وإلا فتدبيره هو كان في غاية الحسن في أوائل أمره غير أنه كان لا يعرف مداخلة إلاتراك ولا رأى تقلب الدول ولا حوله من رأي لأنه أبعد الناس عنه قاطبة وقرب الأمير بردبك الدوادار الثاني لكونه صهره زوج أخته مملوك أبيه بل قيل إن تقريبه لبردبك أيضًا ما كان على أليته فعلى هذا ضعف الأمر من كل جهة‏.‏

ونفرض أن أمر بردبك كان على حقيقة فما عساه كان يفعل وهو أيضًا أجنبي عن معرفة ما قلناه فإنه ما ربي إلا عند أستاذه الأشرف إينال وهو أمير فلا يعرف أحوال المملكة إلا بعد سلطنة أستاذه أيام الأمن والسعادة انتهى‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع شهر رمضان خلع السلطان الملك المؤيد على شرف الدين البقري باستقراره ناظر الإصطبلات السلطانية بعد عزل محمود بن الديري‏.‏

وفي يوم الجمعة عاشره أخذ قاع النيل فجاءت القاعدة أعني الماء القديم ستة أذرع ونصفًا‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان المذكور خسف جميع جرم القمر وغاب في الخسف تسعين درجة وصارت النجوم في السماء كليلة تسع وعشرين الشهر ولعل ذلك يكون نادرًا جدًا فإني لم أر في عمري مثل هذا الخسف‏.‏

هذا وأمر الملك المؤيد آخذ في اضطراب من يوم عين تجريدة إلى البحيرة‏.‏

ولم تخرج التجريدة وخالفه من كتب إليها من المماليك السلطانية فإنه لما عين التجريدة إلى البحيرة لم يعين من المماليك السلطانية أحدًا من مماليك أبيه الأجلاب فعظم ذلك على من عين من غيرهم وعلى من لم يعين أيضًا لمعرفتهم أنه كلموه في أمر مماليك أبيه واستمالوه لهم فإنه استفتح سلطنته بإبعادهم ومقتهم وإرداعهم فأحبه كل أحد فلما فطنوا الآن بميله إليهم نفرت القلوب منه وخافوا من أفعال الأجلاب القبيحة التي فعلوها في أيام أبيه أن تعود فصممت المماليك المعينة إلى البحيرة في عدم الخروج إلا إن عين معهم جماعة من أجلاب أبيه وساعدهم في ذلك المماليك السلطانية من كل طائفة مخافة من تقريب الأجلاب‏.‏

فأساء المؤيد التدبير من أنه لم يبت أمرًا لا بقوة ولا بلين بل سكت وسمع قول من أملاه المفسود من قوله‏:‏ إذا أرسلت مماليك أبيك من يبقى حولك وإذا أبعدت مماليك والدك فمن تقرب فكأنه مال لهذا القول الواهي واستحسنه وهذا نوع مما كنا فيه أولًا من أنه ما كان عنده من يرشده إلى الطريق‏.‏

ثم كلم الملك المؤيد المماليك أيضًا في السفر فاعتلوا بطلب الجمال فأراد تفرقة الجمال فلم يأخذوها‏.‏

واستمروا على ذلك وسكنت حركة السفر بسكات السلطان وبذلك فشا انحطاط قدره وتلاشى أمره بعد أن كان له حرمة عظيمة ورعب في القلوب‏.‏

فلقد رأيت في تلك الأيام شخصًا من أوباش المماليك الظاهرية يكلم الأمير بردبك الدوادار الثاني بكلام لو كلمه لمن يكون فيه شهامة لحمل السلطان على شنقه في الحال وكان ذلك هو الحزم على قول بعض النهابة‏:‏ ‏"‏ إما إكديش أو نشابة للريش ‏"‏ وتلافي الأمور إما يكون بها أو عليها والحزم إنما هو الشد على من عين وتسفيرهم غضبًا فإن تم ذلك فقد هابه كل أحد وقد قيل‏:‏ ‏"‏ من هاب خاف ‏"‏ أو اللين والتلطف بمن كتب والاعتذار لهم عن عدم كتابته لمماليك أبيه الأجلاب بقوله‏:‏ ‏"‏ ما منعني أن أكتب هؤلاء معكم إلا أنهم ليسوا بأهل لمرافقتكم فحيثما أحببتمو ذلك فأنا أكتب منهم جماعة ‏"‏ ثم يكتب منهم عدة فإن تم ذلك ومشى فالأمر إليك بعد سفرهم دبر ما شئت وإن لم يتم فبادر للفعل الأول بكل ما تصر قدرتك إليه واستعمل قول المتنبي في قوله من قصيدته المشهورة‏:‏ الكامل لايخدعنك من عدوك دمعه وارحم شبابك من عدو ترحم لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم فلم يقع منه ذلك ولا ما يشبهه ولا أشار عليه أحد من أصدقائه بشيء يكون فيه مصلحة لثبات ملكه بل سكت كل أحد عنه وصار كالمتفرج إما لبغض فيه أولقلة معرفة بالأمور‏.‏

نكبة الملك المؤيد أحمد ابن إينال وخلعه من الملك لما كان آخر يوم الجمعة سابع عشر شهر رمضان من سنة خمس وستين المذكورة رسم السلطان الملك المؤيد أحمد لنقيب الجيش الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج أن يدور على الأمراء مقدمي الألوف ويعلمهم أن السلطان رسم بطلوعهم من الغد في يوم السبت إلى الحوش السلطاني من قلعة الجبل بغير قماش الموكب ولم يعلمهم لأي معنى يكون طلوعهم واجتماعهم في هذا اليوم بالقلعة وهو غير العادة فدار دوادار نقيب الجيش على الأمراء وأعلمهم بما رسم به السلطان من طلوعهم إلى القلعة‏.‏

وأخذ الأمراء من هذا الأمر أمر مريج وخلا كل واحد بمن يثق به وعرفه الخبر وهو لا يشك أن السلطان يريد القبض عليه من الغد‏.‏

وماجت الناس وكثر الكلام بسبب ذلك وركبت الأعيان بعضها على بعض‏.‏

وأما الأمراء فكل منهم تحقق أنه مقبوض عليه من الغد ووجد لذلك من كان عنده كمين من الملك المؤيد أو يريد إثارة فتنة فرصة وحرض بعضهم بعضًا إلى أن ثارت المماليك الظاهرية في تلك الليلة وداروا على رفقتهم وإخوانهم وعلى من له غرض في القيام على الملك المؤيد وداموا على ذلك ليلتهم كلها‏.‏

فلما كان صبح نهار السبت تفرقوا على أكابر الدولة والأمراء في بيت الأتابك خشقدم لعمل المصلحة فداروا على الأمراء وأمسكوا منهم جماعة كبيرة وأحضروهم إلى بيت الأتابك خشقدم على كره من خشقدم وسارت فرقة في باكر النهار إلى بيت الأمير بردبك الأشرفي الدوادار الثاني الملاصق لمدرسة السلطان حسن وأحضروه إلى بيت الأمير الكبير خشقدم بعد أن أخرقوا به‏.‏

هذا وقد اجتمعت طوائف المماليك مثل الناصرية فرج والمؤيدية شيخ والأشرفية برسباي والظاهرية جقمق والسيفية والجميع في بيت الأمير الكبير ولم يطلع إلى القلعة في هذا اليوم أحد من الأمراء والأعيان إلا جماعة يسيرة جدًا‏.‏

فلما تكامل جمعهم في بيت الأمير الكبير وأكثر الطوائف يوم ذاك الأشرفية والظاهرية وكبير الأشرفية الأمير قرقماس أمير مجلس ولا كلام له بل الكلام لجانبك القجماسي الأشرفي المشد ولجانبك من أمير الخازندار والظاهرية كبيرهم جانبك نائب جدة أحد مقدمي الألوف وقد صارت خجداشيته يوم ذاك في طوع يده وتحت أوامره لحسن سياسته وجودة تدبيره فانضمت كلمة الظاهرية به حتى صارت كلمة واحدة وهم حس وهو المعنى وهذا بخلاف الأشرفية فإنهم وإن كانوا هم أيضًا متفقين فالاختلاف بين أكابرهم موجود بالنسبة إلى هؤلاء وعدم اكتراثهم بهذا الأمر المهم ولتطلعهم على مجيء خجداشهم الأمير جانم نائب الشام ولو أن أمر المؤيد طرقهم على بغتة ما طاوعوا على الركوب في مثل هذا اليوم قبل مجيء خجداشهم فأخذ الأمير جانبك نائب جدة المذكور في تأليف الأشرفية على الظاهرية بحسن تدبير حتى تم له ذلك وصاروا على كلمة واحدة‏.‏

ثم شرعوا في الكلام بحضرة الأمراء في الاجتماع بسببه فتكلم بعض من حضر من الأمراء بأن قال‏:‏ ‏"‏ أيش المقصود بهذا الجمع ‏"‏ أو معنى هذا الكلام فأجاب الجميع بلسان واحد‏:‏ ‏"‏ نريد خلع الملك المؤيد أحمد من السلطنة وسلطنة غيره ‏"‏‏.‏

وكان الباعث لهذه الفتنة ما قدمناه وأيضًا الظاهرية فإن الملك المؤيد لما تسلطن لم يحرك ساكنًا ولم يتغير أحد مما كان عليه فشق ذلك على الظاهرية وقال كل منهم في نفسه‏:‏ كأن الملك الأشرف إينال ما مات فإن الغالب منهم كان أخذ ما بيده من الإقطاعات وحبس ونفي في أول سلطنة الأشرف إينال كما هي عادة أوائل الدول وبقي منهم جماعة كثيرة بلا رزق ولا إمرة ولم يجدوا عندهم قوة ليخلعوا الملك المؤيد هذا ويسلطنوا غيره وحدهم فكلموا الأشرفية في هذا المعنى غير مرة وترفقوا لهم فلم يقبلوا منهم ذلك لنفرة كانت بين الطائفتين قديمًا وحديثًا وأيضًا فلسان حال الأشرفية يقول عندما سألوهم الظاهرية‏:‏ نحن الآن في كفاية من الأرزاق والوظائف فعلام نحرك ساكنًا ونخاطر بأنفسنا فغجزوا فيهم الظاهرية وقد ثقل عليهم الملك المؤيد وكثر خوفهم منه فإنه أول ما تسلطن أبرق وأرعد فانخزى كل أحد وحسبوا أن في السويداء رجالًا ولهذا قلت فيما تقدم‏:‏ لو فعل ما فعل لمشى له ذلك لمعرفتي بحال القوم وشجاعتهم‏.‏

وكان دخول المؤيد السلطنة بحرمة وافرة لأن سنه كان نحو الثلاثين سنة يوم تسلطن وكان ولي الأتابكية في أيام أبيه وأخذ وأعطى وسافر أمير حاج المحمل وحج قبل ذلك أيضًا وسافر البلاد ومارس الأمور في حياة والده‏.‏

وهذا كله بخلاف من تقدمه من سلاطين أولاد الملوك فإن الغالب منهم حدث السن يريد له من يدبره فإنه ما يعرف ما يراد منه فيصير في حكم غيره من الأمراء فتتعلق الآمال بذلك الأمير وتتردد الناس إليه إلى أن يدبر في سلطنة نفسه بخلاف المؤيد هذا فإنه ولي السلطنة وهو يقول في نفسه إنه يدبر مع مملكة مصر ممالك العجم زيادة على تدبير مصر‏.‏

قلت‏:‏ وكان كما زعم فإنه تقدم أنه كان عارفًا عاقلًا مباشرًا حسن التدبير عظيم التنفيذ شهمًا وكان هو المتصرف في الأمور أيام أبيه في غالب الولايات والعزل وأمور المملكة فلما تسلطن ظن كل أحد أن لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا لمعرفة الناس بحذقه وفطنته‏.‏

وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل وعنده تؤدة في كلامه وعقل وسكوت خارج عن الحد يؤديه ذلك إلى التكبر وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلم مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرًا ولأمر من الأمور الضروريات وفعل ذلك مع الكبير والصغير وما كفى هذا حتى صار يبلغ الأمراء أنه في خلوته يسامر الأطراف الأوباش الذين يستحى من تسميتهم فعظم ذلك على الناس فلو كان علم الكلام مع الناس قاطبة لهان على من صعب سكاته عليه من كون الرفيع يكون مبعدًا والوضيع مقربًا فهذا أمر عظيم لا تحمله النفوس إلا غصبًا فلما وقع ذلك وجد من عنده عقد فرصة وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله وبشع في العبارة وشنع وقال هذا وغيره‏:‏ إنه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم وهو مستعز بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخجداشية أبيه وبالمال الذيى خلفه أبوه ومنهم من قال أيضًا‏:‏ إنما هو مستعز بحسن تدبيره فإنه قد عبأ لكل سؤال جوابًا ولكل حرب ضربًا‏.‏

وكان مع هذا قد قمع مباشري الدولة وأبادهم وضيق عليهم ودقق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة فما أحسن هذا لو كان دام واستمر‏!‏‏!‏ فنفرت قلوب المباشرين أيضًا منه وحق لهم ذلك واستمرت هذه الحرمة من يوم تسلطن إلى مجيء يحيى بن جانم نائب الشام إلى القاهرة ثم إلى أن عين التجريدة إلى البحيرة فأخذ أمره في إدبار لعدم مثابرته على سير طريقه الأول من سلطنته فلو جسر لكسر لكنه هاب فخاب ولكل أجل كتاب ولنعد إلى ذكر ما كنا بصدده‏:‏ فلما تكامل الجمع في بيت الأمير الكبير خشقدم الناصري المؤيدي ومتكلم الأشرفية جانبك المشد وجانبك الظريف الخازندار ومن معهم من خجداشيتهم الأعيان ومتكلم الظاهرية الأمير جانبك نائب جدة أحد مقدمي الألوف وأعيان خجداشيته مثل‏:‏ الأمير أزبك من ططخ الظاهري والأمير بردبك البجمقدار ثاني رأس نوبة جدة وقد وافقه الأشرفية وهم يظنون أن الجمع ما هو إلا لسلطنة الأمير جانم الشام لأنهم كانوا اتفقوا على ذلك حسبما تقدم ذكره وهو أن الظاهرية كانوا إذا شرعوا في الكلام مع الأشرفية في معنى الركوب يقولون‏:‏ ‏"‏ بشرط أن لا يكون السلطان منا ولا منكم ‏"‏ وإنما يكون من غير الطائفتين فيقع بذلك الخلف بينهم ويتفرقون بغير طائل إلى أن استرابت الظاهرية من الملك المؤيد أحمد هذا وعظم تخوفهم منه فوافقوهم على سلطنة جانم لما جاء ولده يحيى كما تقدم ذكره‏.‏

ثم وقع هذا الأمر بغتة وعلم جانبك نائب جدة أن الأمر خرج عن جانم لغيابه ولابد من سلطنة غيره لأن الأمير ما فيه مهلة فلم يبد للأشرفية شيئًا من ذلك وأخذ فيما هو بصدده إلى أن يتم الأمر لغير جانم ثم يفعل له ما بدا له وكذا وقع حسبما يأتي ذكره في مجيء جانم وفي سلطنة الملك الظاهر خشقدم‏.‏

هذا وقد جلس جميع الأمراء بمقعد الأمير الكبير خشقدم‏.‏

فعندما تكامل جلوسهم قام الأمير جانبك نائب جدة إلى مكان بالبيت المذكور ومعه الأمير جانبك الأشرفي المشد والأمير جانبك الأشرفي الظريف الخازندار والأمير أزبك من ططخ الظاهري والأمير بردبك البجمقدار الظاهري وجماعة أخر من أعيان الطائفتين وتكلموا فيمن يولونه السلطنة وغرض جانبك نائب جدة في سلطنة الأتابك خشقدم لا في سلطنة جانم نائب الشام غير أنه لا يسعه الآن إظهار ما ضميره خوفًا من نفرة الأشرفية وقال لهم ما معناه‏:‏ ‏"‏ نحن قد كتبنا للأمير جانم بالحضور وبايعناه بالسلطنة وأنتم تعلمون ذلك عن يقين وقد دهمنا هذا الأمرعلى حين غفلة فما تكون الحيلة في ذلك ولابد من قتال الملك المؤيد في يومنا والسلطان ما يقاتل إلا بسلطان مثله ومتى تهاونا في ذلك ذهبت أرواحنا ‏"‏‏.‏

فعلم كل أحد ممن حضر أن كلام جانبك نائب جدة صواب وطاوعه كل من حضر على مقالته هذه فلما وقع ذلك أجمع رأي الجميع على سلطنة أحد من أعيان الأمراء‏.‏

ثم تكلموا فيمن يكون هذا السلطان فدار الكلام بينهم في هذا المعنى إلى أن قال بعضهم‏:‏ ‏"‏ سلطنوا الأمير جرباش المحمدي الناصري أمير سلاح ‏"‏ فلم تحسن هذه المقالة ببال الأمير جانبك ولم يقدر على منعه تصريحًا وقال‏:‏ ‏"‏ جرباش أهل لذلك بلا مدافعة غير أنه متى تسلطن لا يمكنكم صرفه من السلطنة بغيره يعني بالأمير جانم تلويحًا لأنه رجل عظيم ومن الجنس وصهر خجداشنا بردبك البجمقدار وصهر خجداشكم خير بك البهلوان الأشرفي وغيره وقد قارب مجيء الأمير جانم من الشام والأمر إليكم ما شئتم افعلوا ‏"‏‏.‏

فكان هذا كله إبعادًا لجرباش المذكور وأخذًا بخواطر الأشرفية فمال كل أحد إلى كلامه ثم قال جانبك‏:‏ ‏"‏ الرأي عندي سلطنة الأمير الكبير خشقدم المؤيدي فإنه من غير الجنس يعني كونه رومي الجنس وأيضًا إنه رجل غريب ليس له شوكة ومتى أردتم خلعه أمكنكم ذلك وحصل لكم ما تقصدونه من غير تعب ‏"‏‏.‏

فأعجب الجميع هذا الكلام وهم لا يعلمون مقصوده ولا غرضه فإن جل قصد جانبك كان سلطنة خشقدم فإنه مؤيدي وخجداشيته جماعة يسيرة وأيضًا يستريح من جانم نائب الشام وتحكم أعدائه الأشرفية فيه وفي خجداشيته الظاهرية ويعلم أيضًا أنه متى تم سلطنة الأتابك خشقدم وأقام أيامًا عسر خلعه وبعدت السلطنة عن جانم وغيره فدبر هذه المكيدة على الأشرفية فمشت عليهم أولًا إلى أن ملكوا القلعة وخلع الملك المؤيد بسرعة فتنبهوا لها‏.‏

وكانت الأشرفية لما سمعوا كلام جانبك وقالوا‏:‏ ‏"‏ نعم نرضى بالأمير الكبير ‏"‏ كان في ظنهم أن قتالهم يطول مع الملك المؤيد أيامًا كثيرة كما وقع في نوبة المنصور عثمان ويأتيهم جانم وهم في أشد القتال فلا يعدلون عنه لخشقدم فيتم لهم ما قصدوه فاتفقت كل طائفة مع الآخرى في الظاهر وباطن كل طائفة لواحد فساعد الدهر الظاهرية وانهزم الملك المؤيد في يوم واحد حسبما نذكره الآن‏.‏

فلما وقع هذا الكلام جاءت الطائفتان الأشرفية والظاهرية إلى الأمراء وهم جلوس بمقعد الأمير الكبير خشقدم والجميع جلوس بين يدي خشقدم فافتتح الأمير جانبك نائب جدة الكلام وقال‏:‏ ‏"‏ نحن يعني الظاهرية والأشرفية نريد رجلًا نسلطنه يكون لا يميز طائفة على أخرى بل تكون جميع الطوائف عنده سواء في الأخذ والعطاء والولاية والعزل وأن يطلق الأمراء المحبوسين من سائر الطوائف ويرسم فى سلطنته بمجيء المنفيين من البلاد الشامية وغيرها إلى البلاد المصرية ويطلق الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباي والملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق من برجي الإسكندرية ويسكنا الإسكندرية في أي دار شاءا ويأذن لهما في الركوب إلى الجامع وغيره بثغر الإسكندرية من غير تحفظ بهما ‏"‏‏.‏

وكان كلام الأمير جانبك لجميع الأمراء لم يخص أحدًا منهم بكلام دون غيره فبادر الأتابك خشقدم بالكلام وقال‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏ ثم التفت جانبك إلى الجميع وقال‏:‏ ‏"‏ فمن يكون السلطان على هذا الحكم ‏"‏ فبدأ سنقر قرق شبق الأشرفي الزردكاش وقال ما معناه‏:‏ ‏"‏ ما نرضى إلا بالأمير جانم نائب الشام أنتم كتبتم له بالحضور وأذعنتم بسلطنته فكيف تسلطنوا غيره فنهره الأمير خيربك من جديد الأشرفي لنفس كان بينهما قديمًا وقال‏:‏ ‏"‏ لست بأهل الكلام في مثل هذا المجلس ‏"‏‏.‏

فعند ذلك قال الأمير قانم التاجر المؤيدي أحد مقدمي الألوف ما معناه‏:‏ ‏"‏ يا جماعة إن كنتم كاتبتم الأمير جانم نائب الشام فلا تسلطنوا غيره إلى أن يحضر وسلطنوه فإنه لا يسعكم من الله أن تسلطنوا غيره الآن ثم تخلعوه عند حضور جانم فهذا شيء لا يكون ‏"‏ فلم يسمعوا كلامه وسمع في الغوغاء قول قائل لا يعرف‏:‏ ‏"‏ سلطنوا الأمير جرباش‏!‏ ‏"‏‏.‏

فامتنع جرباش من ذلك وقال ما معناه‏:‏ ‏"‏ إن هذا شيء راجع إلى الأمير الكبير ‏"‏ وقبل الأرض من وقته‏.‏

فقام الأمير جانبك الأشرفي الظريف الخازندار وبادر بأن قال‏:‏ ‏"‏ السلطان الأمير الكبير ‏"‏ وقبل الأرض‏.‏

ثم فعل ذلك جميع من حضر من الأمراء ونودي بالحال بسلطنته بشوارع القاهرة ثم شرعوا بعد ذلك في قتال الملك المؤيد أحمد هذا‏.‏

كل ذلك والملك المؤيد في القلعة في أناس قليلة من مماليكه ومماليك أبيه الأجلاب ولم يكن عنده من الأمراء أحد غير مملوك والده قراجا الطويل الأعرج أحد أمراء العشرات وهو كلا شيء والأمير آخور الكبير برسباي البجاسي وليته لا كان عنده خيربك القصروي نائب قلعة الجبل وكان أضر عليه من كل أحد حسبما يأتي ذكر فعله‏.‏

كل ذلك والملك المؤيد لا يعلم حقيقة ما العزم فيه غير أنه يعلم باجتماع المماليك والأمراء في بيت الأمير الكبير خشقدم وأنهم في أمر مريج غير أنه لا يعرف نص ما هم فيه‏.‏

وصار الملك المؤيد يسأل عن أحوالهم وينتظر مجيء أحد من مماليك أبيه إليه فلم يطلع إليه أحد منهم بل العجب أن غالبهم كان مع القوم عند الأمير الكبير مساعدة علي ابن أستاذهم وليتهم كانوا من المقبولين وإنما كانوا من المذبذبين لا غير‏.‏

على أن الملك الظاهر خشقدم لما تسلطن أبادهم وشوش عليهم بالمسك وإخراج أرزاقهم أكثر مما عمله مع الذين كانوا عند المؤيد فلا شلت يداه‏.‏

وبقي الملك المؤيد كلما فحص عن أمر الفتنة لا يأتيه أحد بخببر شاف بل صارت الأخبار عنده مضطربة وآراؤه مفلوكة وهو في عدم حركة ويظهر عدم الاكتراث بأمر هذا الجمع إلى أن تزايد الأمر وخرج عن الحد وصار اللعب جدًا فعند ذلك تأهب من كان عنده من المماليك وقام الملك المؤيد من قاعة الدهيشة ومضى إلى القصر السلطاني المطل على الرميلة ثم نزل بمن معه إلى باب السلسلة وقبل أن يصل إلى الإسطبل جاءه الخبر بأن القوم أخذوا باب السلسلة وملكوا الإسطبل السلطاني وأخذوا الأمير برسباي البجاسي الأمير آخور الكبير أسيرًا إلى الأمير الكبير خشقدم وكان أخذ باب السلسلة مكيدة من برسباي المذكور‏.‏

فلما سمعت الأجلاب أخذ باب السلسلة نزل طائفة منهم وصدموا من بها من عساكر الأتابك خشقدم صدمة هزموهم فيها واستولوا على باب السلسلة ثانيًا وهو بلا أمير آخور‏.‏